مع كل عام يتجدد “الصراع” حول وسائل تحديد رؤية هلال رمضان، فمن متحيز للنصوص بحرفيتها في تحديد الرؤية بالعين المجردة، أو إكمال عدة شعبان غير مستأنس في ذلك ولا قابل بأي وسيلة حديثة، وإنما هو مطمئن لـ”عينه المجردة”.. بينما يذهب الكثيرون إلى الاستعانة بالوسائل الحديثة من مراصد فلكية وتلسكوبات وغيرها لتحديد رؤية قاطعة بما تملكه هذه الوسائل من دقة تفوق بكثير قوة إبصار العين المجردة، مستندين في ذلك إلى أن الغاية هي رؤية الهلال، وليس تطبيق وسائل الرؤية وتتبع نصوصها.. على أن هذا الصراع استقبلته صفحات الجرائد، وبعض الدوريات المهتمة بهذا الجانب، ولم يكن نادي مكة الثقافي الأدبي ببعيد عن ذلك في سياق محاضرته يوم الأحد الماضي التاسع من رمضان، وهو يخصص الأمسية لبحث موضوع “الأهلة” مستضيفًا الباحث في علم الفلك عدنان بن عبدالمنعم قاضي، فيما أدار الأمسية الدكتور عبدالوهاب أبوسليمان عضو هيئة كبار العلماء، الذي استهل الأمسية “منحازًا” إلى الوسائل الحديثة في تحديد رؤية الهلال في سياق ما أورده من قصة مفادها أن شخصين أتيا في ليلة الجمعة الأخيرة من شعبان مدعيين رؤية هلال الصوم فردت شهادتهما استنادًا إلى استحالة رؤية الهلال بحسب قول الفلكيين، وهو ما أقرته هيئة كبار العلماء مؤكدًا على ذلك بقوله: لو جاء شهود عيان وقالوا رأينا الهلال؛ بينما الفلكيون قالوا إنه لا يمكن أن يُرى، فهذا طعن في تلك الشهادة، فالعلماء أجازوا المراصد والتلسكوبات وثبت عندهم أن هذه أقوى من العين الباصرة، وفيه قرارات في هذا الموضوع. مشيرًا إلى أنه قبل عامين قال الفلكيون السعوديون بأنه لا يمكن أن يرى الهلال تلك الليلة، وإنما يُرى نجم شبيه بالهلال، وأكدوا ذلك من فترة طويلة، ولكن جاء الشهود وشهدوا، فأجابت مدرستنا ذلك.
علم قديم
في ضوء هذه القصة التي تؤكد استئناس هيئة كبار العلماء برأي ذوي الاختصاص الفلكي وتغليب قولهم على أي قول مضي أبو سليمان في حديثه مقرظًا ما وصل إليه علم الملك في المملكة مضيفًا: إن علم الفلك في هذه البلاد الطاهرة علم عريق، له مدارسه وله دراساته وله مؤلفاته؛ ولكن الوقت الحاضر طمس على ذلك، وقد كان يسمى علم الميقات وعلم الهيئة، وكان مقررًا في المدارس العلمية، وكان يدرس في المسجد الحرام، وقد كان الناس دائمًا في حيرة وفي لغط في موضوع الهلال دون أن يجدوا من أهل التخصص من يوضح لهم ذلك.. ومعلوم أن الفهم الشرعي مبني على فهم التخصص، والفقهاء على قسمين؛ فقهاء المدرسة الظاهرية وفقهاء المدرسة المقاصدية، أما نحن فأتباع المدرسة الظاهرية، ولا غبار على ذلك.. وقد كان من المفروض أن نترك هذا الأمر للفلكيين ثم بعد ذلك يمكن للفقهاء أن يسقطوا الأحكام وينزلونها. مشيرًا إلى أن الوسائل ليست تعبدية بوصفها تؤدي إلى المقصد والمقصد هو الذي يتعبد به. فالرؤية ما تعبدنا الله بها فقط الرؤية ان نمنع الحساب ونمنع المراصد فنقول الرؤية البصرية فأعتقد هذا تحكم وهو مبدأ المدرسة الظاهرية.
مبينًا أن البحث في الفلك مشكلة عالمية على مستوى العالم الإسلامي شكا منها الفقهاء والمثقفون والفلكيون وقد نقلت بعض عبارات الفقهاء الذين ينقمون على الوضع وعلى الرؤية في وضعها الحاضر وفي مقدمتهم سماحة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية في قطر الذي أبدى أسفه لما يشاهده في واقع المسلمين من اختلاف في رؤية هلال رمضان وهلال شوال وهلال ذي الحجة مما يجر معه الاختلاف المشاهد في بدء الصوم وانتهائه وفي تحديد أيام الحج ووقتها مع أنه يمكن رؤية الهلال في أقطار الإسلام كافة في ليلة واحدة..
عارضًا في حديثه لما خطه قلم الكاتب أحمد محمد مجلي مشيرًا فيه إلى أن توحيد رؤية هلال شهر رمضان مشكلة عالمية حيث تختلف الدول العربية والعالم الاسلامي كل عام بداية الشهر ونهايته ففي العام الماضي 1429هـ كان هناك عشر دول عربية اتفقت على دخول الشهر في يوم بينما (41) دولة عربية واسلامية أثبتت دخول الشهر بعد يوم وكذلك عيد الفطر والتاسع من ذي الحجة.
46 عامًا من التعارض
على أن رأي الدكتور أبوسليمان أعلاه جاء على خلفية ما أورده المحاضر الباحث الدكتور عدنان قاضي الذي أكد في مستهل محاضرته أنه وبالدليل العلمي أن طريقة تطبيق الرؤية المتبعة لـ(46) سنة الفائتة كانت طريقة تتعارض تمامًا مع المنهج العلمي لعلم الفلك الحديث وليس لها سند مادي. فأي نفر أو افراد يدعون أنهم رأوا الهلال في الوقت الذي يكون فيه الهلال تحت الأفق فهم شهود مستحيل، وحينما تكون نسبة الخطأ في ادعاء الرؤية لهلال رمضان 63% ولهلال شوال 67% فقط فإن الطريقة المتبعة مهما كانت لا يعتمد عليها، ويجب إعادة النظر فيها واستبدالها بما يتفق مع ما خلق الله، كما تظهر الحقائق الكونية أن الفقه الذي يبررها لا يستند إلى فهم شمولي لشرع الله، ولا إلى فهم حقيقي لما خلق الله.
وقسم قاضي المشكلة إلى فقهية وفلكية.. مشيرًا إلى أن الجزء الفقهي يستعرض ثلاثة تيارات فقهية الأول يقول إن الرؤية واجبة شرعًا لورود نص.. والتيار الثاني يقول يجب استخدام علم الفلك لأن علم الفلك يقيني.. والثالث لا يعتمد على الرؤية الأولى ولا على الثانية ولا يناقضهما؛ إنما ينظر إلى الموضوع من زاوية مختلفة هي النظرة الشمولية لأنه لا يأخذ حديثًا واحدًا لتفسير مراد الإسلام وإنما ينظر للموضوع بشكل كبير.
ماضيًا إلى القول:
كثير من العبادات حددت بدايتها بظاهرة طبيعية؛ فتجد أن فردًا واحدًا كافيًا لإدخال هذه العبادة بينما العبادة يجب أن يقوم بها كل الافراد. وأنا أقصد بهذه الأدلة أنها وسائل محددات لبدء العبادات ولبدء المعاملات وليست جزءا من العبادة التالية.. فالحديث الشريف (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته) أشار إلى هدف معين ووسيلة فالهدف هو العبادة بينما الوسيلة غير عبادة. فكل الظواهر الطبيعية التي استخدمتها الشريعة الاسلامية هي ليست جزءا من العبادة التالية أو المعاملة التالية. فرؤية الهلال واجبة لأنه صلى الله عليه وسلم قال (صوموا لرؤيته) فنجد أن فعل (رأى) فعلاً عجيبًا ثريًا وقد وضعت نحو (25) معنى مختلفًا من الكتاب والسنة عن الفعل (رأى). فهنا رأى بالعين المجردة، ورأى بالعين المجردة ولكن غير حقيقة.. ورأى بمعنى تلاقوا وقربوا.. ورأى بالعقل.. (وترى الشمس إذا طلعت تزاور)، ورأى بمعنى رأى بالقلب (ماكذب الفؤاد ما رأى).. ورأى العلم بالشيء (ألم تروا كيف خلق الله) فأنا وأنت لم نكن موجودين عندما خلق الله السموات السبع فرأى بمعنى علمت بالشيء.. ورأى بالخبر.. ورأى أي أشار ونصح.. ورأى بمعنى يتذكر كما في قصة الرجل الصالح وسيدنا موسى عندما قال (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة).. ورأى بمعنى تقدير الأمر (إنهم يرونه بعيدًا ونراه قريبًا).
وهكذا. فرأى هنا لو قصر على النظر فهو إجحاف للفعل، ولا يعد إلمامًا بأهداف الشريعة أو (النظرة الشمولية).. والنبي صلى الله عليه وسلم عندما اختار الفعل (رأى) كان يعلم تمامًا ماذا يقول. فرأى لا يقصر على معنى واحد.. والشريعة الإسلامية – لكي ندلل على أن الرؤية ليست تعبدية – لم تحدد أين الرؤية ومتى ولم تحدد شكل الهلال. فلو كانت عبادة كان الشرع حدد الشكل واللون وزمن الرؤية.
اختلاف المطالع
وحول اختلاف المطالع يتابع قاضي حديثه مضيفًا: إن فكرة اختلاف المطالع بنيت على علم كوني في ذلك الوقت ثم ركب عليه فقها، فإذا استطعت إثبات أن العلم الكوني في ذلك الوقت هو غير صحيح في هذا الوقت فالفقه الذي بني عليه أيضًا غير صحيح. فمسألة اختلاف المطالع مسألة كبيرة جدًّا. فاذا اختلف الناس في المطالع ماذا يحدث؟.. عندما نجمع كل المسلمين الذين صاموا قبلنا بيوم والذين صاموا بعدنا بيوم نجد أننا صمنا (33) يومًا، وأن العشر الأواخر ليست عشر أواخر؛ بل (13) أواخر، منها 6 أيام مشتركة..
فالرؤية أحدثت إشكالاً بيننا؛ لأن لكل منا رؤية غير رؤية الآخر. فوحدة المصدر مهمة لنا كمسلمين. فإذا رؤي الهلال في منطقة شمالية فيجب بالضرورة أن يرى في منطقة جنوبية وليس العكس. فإذا رؤي في الشمال ولم ير في الجنوب نتيجة سحاب او غبار فهذا شيء ممكن؛ لكن إذا كانت السماء صحوًا ورأوا الهلال في الشمال ولم يراه أهل الجنوب فهذا غير ممكن كونيًّا. فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال (صوموا لرؤيته) فهو يقصد كافة المسلمين لأنه مرسل للناس كافة ولم يقصد جزءًا منهم. كما أن اختلاف المطالع لم يرد فيه نص شرعي من الكتاب والسنة؛ ولكنه فهم لحالة الكون في ذلك الوقت ثم طبق عليه فقه. فالفهم الكوني لذلك الوقت غير صحيح. فأحيانًا نجد أن اختلاف الأزمنة يؤدي إلى اختلاف المطالع. وأشير هنا إلى أن اختلاف المطالع مصطلح فقهي في بادئ الأمر؛ ولكنه في الحقيقة هو غير ذلك.. فلنفهم ما معنى اختلاف المطالع بحسب علم الجغرافيا الحديث والفلك الحديث ثم نبني فقها جديدًا على ذلك وليس فقهًا مبنيًا على فهم قبل خمسمائة عام أو ألف عام أو أكثر من ذلك.
شروط رؤية الهلال
وختم المحاضر حديثه محددًا شروط رؤية الهلال بقوله:إن لرؤية الهلال شروطا هي ولادة الهلال، وأن يكون هناك وقت كافٍ بين غروب الشمس وغروب الهلال، وإكمال الهلال لدورته أي تكون الرؤية له بعد غروب الشمس وليس قبل الغروب.
مبينًا أن الدراسة التي مضى عليها أكثر من 46 عاما قارنت بين يومين؛ اليوم الذي أعلن رسميًّا واليوم الذي يوافق الشروط التي وضعها علماء الشريعة وعلماء الفلك الذين وفدوا من 52 دولة اسلامية عام 1387هـ واجتمعوا في اسطنبول ووضعوا قواعد لرؤية الهلال، وأظهرت نتائج الدراسة أن رمضان خلال نحو 50 عامًا كانت مرات التوافق فيه 6 مرات، ومرات التعارض 44 مرة، والهلال تحت الأفق 28 مرة، بالرغم من أن هناك من أتى وقال إنه رأى الهلال وهو قد غرب. أما هلال شوال فكانت مرات التوافق 7 مرات، ومرات التعارض 43 مرة، والهلال تحت الأفق 32 مرة. أما ذو الحجة فكانت مرات التوافق 12 مرة، مرات التعارض 38 مرة، الهلال تحت الأفق 15مرة.
تجريب ثقافات الآخرين
وقد شهدت المحاضرة العديد من المداخلات ابتدرها الدكتور محمد بن مريسي الحارثي متسائلاً: كيف أفسر الشرع بالعلم أو العلم بالشرع؟، وتلا الآية الكريمة (ويسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى)، ماضيًا في تساؤله: لم تسألون عن الأهلة وتتركون ما هو أهم من الأهلة فيما يهمكم من مسائل العقيدة.. فكأن السؤال عن الأهلة ليس بذلك القدر المهم بالنسبة لما وجه إليه الخطاب القرآني بأن الحاجة الأولى في حجته يأتي البيوت من ظهورها ولا يأتي البيوت من أبوابها، فهذا فيه معتقد ومسألة لابد من ايضاحها.. ويمضي الحارثي في حديثه بقوله: إن القدر في اكتمال الهلال من قدر الله، فهناك مسافة زمانية تجعلني أرى الهلال في مكة مثلاً في وقت معين لا يراه الناظر إلى مولد الهلال في الصين، أو في واشنطن، أو جاكرتا.. فهل هذا الاختلاف في مسافة الرؤية يؤثر على مسافة الالتزام العبادي (التعبد)؟ لهذا أناشد علماء المسلمين أن يضعوا حدًّا لهذا الاختلاف. فالفلك من أين اكتسبته الحضارة الاسلامية قديمًا؟ اليس من ثقافة الهنود! فلماذا لا نجرب نحن الثقافات الأخرى في علم الفلك ونستفيد من هذا العلم في جانب مهم يترتب عليه جوانب تعبدية..
وبمثل ما بدأ مريسي مداخلته متسائلاً ختمها كذلك بتساؤل مفاده: لماذا التاريخ الميلادي ثابت؟ إننا نريد أن يشتغل علماء الفلك على عيونهم التجريبية العلمية وعلماء الفقه يشتغلون فيكون هناك التقاء بينهم.
ومن التساؤل الأخير في مداخلة الدكتور الحارثي يستهل الدكتور حسن محمد باصرة (المتخصص في علم الفلك) مداخلته بقوله: إن التقويم الميلادي تقويم اصطناعي بينما التقويم الهجري تقويم طبيعي وضعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فبدأ هذا التقويم من عهد عمر فرؤية الأهلة لا علاقة لها بالتقويم.. كما أن معايير القمر المختلفة وضعت من قديم من ألف عام فلم توضع إلا لتحسين التقويم الهجري وليس لموضوع الأهلة ورؤيتها؛ ولكنها الآن استخدمت لتحديد موضوع الأهلة..
ويضيف باصرة: إننا نسمع دائما في الأخبار وغيرها اختلاف الحسابات وعدم اتفاقها.. وفي عهد الإمام ابن تيمية كان يقول إذا كان الهلال على ارتفاع درجة واحدة فوق الأفق فهو لا يرى، وإذا كان على ارتفاع عشرين درجة يراه الجمع ما لم يحول حائل، وإذا كان بينهما فعندهم اضطراب أي اختلاف.. فالاختلاف موجود إلى يومنا هذا، فهناك معايير في عدد من الدول ولكن متى تستخدم هذه المعايير؟ تستخدم عندما نعرف أن القمر تخلف بعد الشمس ولم يغرب قبل الشمس.. فإذا غرب قبل الشمس فهذه حسابات يقينية بحتة لا علاقة لها بالظنية بتاتًا.. وهذه الحسابات لا يخالطها شك أو خطأ إلا ثانية أو ثانيتين أي لا تصل للدرجة الواحدة. كما أن الشيخ بن باز رحمه الله ممن أجاز قبول شهادة الرؤية بالتلسكوب، فالتلسكوب يوضح موجودًا ولا يوجد مفقودًا.
وطالب باصرة من وهبهم الله حدة في البصر بمساعدتهم في رؤية الهلال لتحسين معايير الرؤية .. مختتمًا بقوله: إن بعض الفلكيين يبتعدون عن الوقائع فهم من الشواذ الذين لا يعتد بهم.
المصدر : جريدة المدينة (السعودية)
http://www.alwaraq.net/Core/news/news_indetail?id=786