تمهيد:
الرثاء من الموضوعات البارزة في دنيا الناس؛ إذ طالما بكى العلماء و الأدباء والشعراء وغيرهم مَن رحلوا عن دنياهم، وسبقوهم إلى الدار الآخرة، وهو حالة من البكاء تتعمق في القدم؛ فمنذ وجد الإنسان وجد أمامه هذا المصير المحزن، مصير الموت، الذي لا بد أن يصير إليه، فيصير أثرًا بعد عين، وكأنه لم يكن شيئًا مذكورًا.
[الرثاء، شوقي ضيف، ص: 5 بتصرف]
الرثاء في اللغة:
جاء في لسان العرب في مادة رثأ: رثأت الرجل رثأً: مدحته بعد موته، لغة في رثيته، ورثأت المرأة زوجها كذلك، وهي المرثئة، وقالت امرأة من العرب: رثأت زوجي بأبيات، وهمزت، أرادت رثيْتُه.
[لسان العرب، الجزء الأول، ص: 83]
وجاء في القاموس المحيط: “رثيت الميت رثيًا ورثاء ورثاية، بكسرهما، ومرثاة ومرثية، مخففة، ورثوته: بكيته وعددت محاسنه، كرثَيْتُه ترثية، وترثيته، نظمت فيه شعرًا وحديثًا عنه. أرثي رثاية: ذكرته وحفظته، ورجل أرثى: لا برم أمرًا، ورثى له: رحمه ورق له، وامرأة رثاءة ورثاية: نوَّاحة.
[القاموس المحيط، مادة: رثى، ص: 1286 – 1287]
ويدخل في باب الرثاء التأبين:
وهو تعداد الخصال والأوصاف الحسنة التي اشتُهر بها الميت في حياته، والإشادة به وبأخلاقه وبمناقبه، كالعلم والمروءة والعفة والحياء، والشجاعة والبطولة والكرم، ذكر شوقي ضيف في كتابه “الرثاء” قائلًا: “وليس التأبين نَوَاحًا ولا نشيجًا على هذا النحو، بل هو أدنى إلى الثناء منه إلى الحزن الخالص؛ إذ يخرُّ نجم لامع من سماء المجتمع، فيشيد به العلماء والمثقفين منوِّهين بمنزلته العلمية أو الأدبية وغيرها، وكأنهم يريدون أن يصوروا خسارة الناس فيه، ومن هنا كان التأبين ضربًا من التعاطف والتعاون الإجتماعي، و فيه لا يعبر عن حزن الفرد، وإنما يعبر عن حزن الجماعة وما فقدته في هذا الفرد المهم من أفرادها؛ ولذلك يسجل فضائله ويلح في هذا التسجيل، وكأنه يريد أن يحفرها في ذاكرة التاريخ حفرًا حتى لا تنسى على مر الزمان”.
[الرثاء، شوقي ضيف، ص: 6 بتصرف]
وقد رثى سيدنا حسان بن ثابت رضي الله عنه شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى قصائده خير البرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، [شرح ديوان حسان بن ثابت الأنصاري ص 150 – 151 – 152] بمرثية غنية بألفاظ مستقاة من روح عقيدة الإسلام، ومن عمق نظرته الجديدة للكون والحياة والموت، أومأ فيها رضي الله عنه بصورة إيحائية إلى إيمانه بالبعث والحشر بعد الموت، وذلك عندما دعا الله أن يحشره ويجمعه مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنة الفردوس:
يا رب فاجمعنا معا ونبينا
في جنة تثني عيون الحسدِ
في جنة الفردوس فاكتبها لنا
يا ذا الجلال وذا العلا والسؤددِ
و إن مما يُحمد لمجتمعنا حبَّه للعلماء الراسخين والدعاة الصادقين ، والأخذ بأقوالهم والاستنارة برأيهم، وإذا حلَّ بأحد العظماء أجله المقدَّر وانطوت صحيفته وانتقل عن هذه الدنيا، فإن الجموع تحزن والعيون تدمع، وكأنها فقدت أبًا أو أمًّا أو قريبًا لصيقًا، يقول أيوب السختياني رحمه الله: ( إني أُخْبَر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي) أخرج ذلك الإمام اللالكائي.
فإذا كان هذا شعورهم عند موت الرجل من عامة أهل السنة والجماعة ، فكيف تكون حالهم عند موت أحد علماء السنة أو الدعاة الناصحين إليها ؟!
أَهكَذا البَدرُ تُخفي نورَهُ الحَفرُ
وَيُفقَدُ العِلمُ لا عَينٌ وَلا أَثَرُ
خَبَت مَصابيحُ كُنّا نَستَضيءُ بها
وَطَوَّحَت لِلمَغيبِ الأَنجمُ الزُهُر
واشتهر في عصرنا هذا من هؤلاء العلماء، في كل بلد على امتداد العالم الإسلامي، ممن أخلصوا دينهم لله عز وجل، وكانوا ربانيين على منهج السلف الصالح رضي الله عنهم، وكان لوفاتهم أثر عميق في نفوس المسلمين في شتى بقاع الأرض، واهتز شعور العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء وغيرهم من جميع المثقفين لوفاتهم؛ فعبروا عن حزنهم عليهم بكلمات وقصائد تموج حرارةً وألمًا وأسى، ومن أبرز شهود القرن وعلمائه ودُعاته، علمًا وحكمةً، وعقلاً وذكاءً، وبيانًا وفصاحةً، وطرفةً بديعةً، وثقافةً واسعةً، وقدرةً على مخاطبة جميع المستويات والأعمار والتأثير فيهم معالي الأستاذ الدكتور: عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد أبو سليمان ٠
الذي وافته المنية يوم الإثنين السادس والعشرون من شهر رمضان للعام ألف وأربعمائة وأربعة وأربعون هجرية، بمدينة جدة (١٣٥٦-١٤٤٤هـ). ودفن بمقبرة المعلاة بالحجون بمكة المكرمة في الحوطة رقم ( ١٠٥ ) أمام قبر أم المؤمنين السيدة خديجه الكبرى رضي الله عنها ٠
والذي كانت له مكانة عالية في قلوب المسلمين عامة، وفي المملكة العربية السعودية خاصة، فقد كان عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وأستاذ الفقه وأصوله وقواعده ومقاصده، بجامعة أم القرى سابقًا والمؤرخ المكي المعروف ، هذه المهمات الجسام جعلته على تواصل دائم مع علماء العالم الإسلامي في قضاياه المصيرية، وقد أحبه الناس، ليس لتوليه هذه المناصب، وإنما لصفات أخرى خلقية ونفسية، في مقدمتها الورع والتواضع والزهد في الدنيا، يقول الشاعر :
حلفَ الزمانُ ليأتينَّ بمثلِه
حَنَشَت يمينُكَ يا زمانُ فكفِّرِ
وتجدون في الصفحات التالية ما كُتب عنه رحمه الله تعالى رحمة الأبرار وبارك في نسله وطلابه وذويه الأخيار وجمعنا به في دار القرار في جنّات تجري من تحتها الأنهار مع النبي المختار وآله الأطهار وصحبه الأخيار صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
إعداد : محمد علي يماني ٠
مكة المكرمة ، الجمعة
١٠/١٥/ ١٤٤٤هـ